جواره الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بأنواره صلى الله عليه وسلم
كان ذلك في شهر ربيع الأنور من عام / 1400/ للهجرة الشريفة ، وحتى شهر شعبان من عام / 1403/ للهجرة الشريفة فجاور في المدينة المنورة ما يزيد على ثلاث سنوات ونصف السنة .
كان سفره للحجاز لأداء العمرة المباركة والزيارة الشريفة لخير خلق الله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم مكث في المدينة المنورة تلك المدة امتثالاً لأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاءه ذلك في رؤيا منامية وإشارات غيبية ، إذ لم يكن يقدم على أمر ذي بال حتى يأتيه الإذن به من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولقد كان فرحه وبهجته بجوار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوازيه شيء ، إذ كان ذلك غايته ومنيته ، وكان جوابه إذا سأله أحد من أحبابه عن حاله يقول :[ الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله ، فلا دار بعد دار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا إقامة ترجى بعد الإقامة بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ].
ومن أقواله رضي الله عنه في بعض مخطوطاته :
وقلت إذ حللت في المدينة المنورة بأنواره الشريفة صلى الله عليه وسلم :
يا قلب بشراك أيام الرضا رجعت وهذه الدار للأحباب قد جمعت
أما ترى نفحات الحي قد عبقت من طيبة وبروق القرب قد لمعت
فعش هنيئاً بوصل غير منفصل مع من تحب فحجب الهجر قد رفعت
واشهد جمال الذي من أجل طلعته قلوب عشاقه من نوره انصدعت
وأبشر بنبيل الذي قد كنت تأمله من طلعة المصطفى شمس السما طلعت
صلى الله عليه وآله وسلم أبداً أبداً أبداً
وكان رضي الله عنه يقول :[ إذا كان جار الكرام لا يضام ، بل يكون في رغد وسلام ، فكيف حال من جاور سيد الكرام سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ، أكرم الأولين والآخرين على رب العالمين ].
وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة ، ودعا لها ولأهلها بالخير والبركة ، ودفع الشدة والبلوى عنها ، ووعد صلى الله عليه وسلم بالشهادة والشفاعة الخاصة لمن جاور فيها أو مات فيها ، كل ذلك جاء في أحاديث وردت عنه صلى الله عليه وسلم .
ولقد توالت عليه الكرامات والنفحات الإلهية المحمدية ، مما جعله يترقى في مقامات القرب من الله تعالى ، وتواردت عليه البشائر بالرؤى المنامية ، وعلى لسان المحبين الصالحين من أهل المدينة وغيرها .
وقص علينا عدة رؤى سأذكر تفصيلها في كتاب مستقل حول مناقبه رضي الله عنه إن شاء الله تعالى ، ومنها أنه رأى شهادته بأن لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبولة عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد خط على باب الكعبة المشرفة أن شهادة عبد الله سراج الدين مقبولة .
ورأى أنه دخل المسجد النبوي من باب السلام ، فاستقبله جمع من الأولياء رضي الله عنهم ، وأجلسوه في مكان مهيأ لجلوس القطب في غرفة واسعة .
ورأى مرة السيدة الكبرى فاطمة رضي الله عنها وقد بسطت لحافها ، وهو لحاف كبير واسع ، ومناد ينادي : من يضم رأسه تحت هذا اللحاف ينال السعادة والأمان ، فتقدم رضي الله عنه والسيدة الزهراء رضي الله عنها تنظر إليه ، وأدخل رأسه وجسمه كله تحت الحاف وارتفعت الأصوات : لقد فاز ... لقد فاز .
ورأى النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في المنام ، وهو يأمر سيدنا علياً رضي الله عنه ، أن يأتي بعباءته الشريفة صلى الله عليه وسلم ليخلعها على شيخنا الإمام رضي الله عنه .
وقد تفرغ أيام مجاورته في المدينة المنورة لعبادة الله تعالى ، وتصنيف الكتب العلمية الدينية ، وكم كان رجاؤه عظيماً أن يخدم بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمل خير يبقى نفعه وأثره جارياً ، فحقق الله تعالى رجاءه ، إذ جعله سبباً وواسطة في إنشاء مدرسة لتلاوة القرآن الكريم وتحفيظه وقراءاته وقراءة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يزال هذا الصرح باقياً ، يقوم عليه خيرة أهل العلم والصلاح ، ويخرج عدداً من طلاب العلم وحفظة القرآن الكريم .والحمد لله رب العالمين .
وكان رضي الله عنه يكثر الذهاب إلى مسجد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه ، ولزيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدخل من باب السلام ، ويتوجه إلى الروضة الشريفة ، فيصلي ما يسر الله تعالى له ثم يتقدم ماشياً بأدب وخضوع ، ويقف إلى سارية أمام المواجهة الشريفة ، ويطيل الوقوف بذل وانكسار بين يدي من أرسله الله رحمة للعالمين ،وبالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله عليه وسلم ، ويكثر الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم ، ويدعو الله متوسلاً به حتى إذا أذن له بالانصراف ، تراجع بأدب وتواضع ناحية الروضة الشريفة ، وصلى فيها وسأل الله تعالى و دعاه ، ثم يتوجه من حيث أتى ، ويخرج من باب السلام وقد اكتسى حلة نورانية محمدية يراها كل ذي بصيرة .
وحصل مرة أن تبعه أحد المسؤولين عن خدمة الحجرة الشريفة وما حولها ، تبعه إلى خارج المسجد وسلم عليه وعانقه ، وبذل جهده في تقبيل يده ، لكن شيخنا الإمام لم يمكنه من ذلك أدباً وتواضعاً في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال هذا الرجل لشيخنا الإمام : والله لقد رأيت نوراً يخرج من الحجرة الشريفة ، ويمتد إليك ، ويمضي معك حيثما توجهت ، ولهذا لحقت بك لأبشرك وأتبرك بك ، فدعا له شيخنا الإمام رضي الله عنه ، وسأله الدعاء له خاصة أمام المواجهة الشريفة .
ولم يكن حديثه في مجالسه يخلو من التذكير بالآداب الواجبة على من أقام في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو جاور فيها ، أو قصدها لزيارة الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم ، والصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام . ويذكر في هذا السياق ما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم ، ومنهم الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه ، إمام دار الهجرة ، وأحد الأئمة المجتهدين ، فكان يمشي في سكك المدينة المنورة حافياً ، ولا يركب مركوباً ، وإذا أراد قضاء حاجته ابتعد خارج أسوار المدينة ، أدباً مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتكريماً لأرض وطئتها أقدامه الشريفة صلى الله عليه وسلم .
وإذا أراد التحديث في المسجد النبوي توضأ وتطيب ، ولبس ثياباً جدداً ، ولبس ساجاً وتعمم ، وإذا شرع في رواية الحديث خشع وأخذه الوجل والمهابة ، وتغير لونه إجلالاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .وهكذا سائر علماء السلف رضي الله عنهم .
ولم يرجع شيخنا الإمام رضي الله عنه إلى حلب إلا بعد أن جاءه الإذن من الحضرة المحمدية صلى الله عليه وسلم بالعودة وكان يقول :[ ذهبت بإذن وأقمت بإذن ورجعت بإذن ونسأل الله تعالى أن يتولانا في جميع قضايانا ].
وقد استأنف دروسه المباركة بعد عودته ، وجعلت المدرسة الشعبانية تزهو برعايته وعنايته وإن لم تنقطع توجهاته ودعواته لها وللعاملين فيها طيلة فترة إقامته في المدينة المنورة .
وقد اكتست مدينة حلب بعودته حلة البهاء والجمال ، وشعر أهلها بالأنس وراحة البال ، بعد أن بسط شيخنا الإمام مائدته فيها وأقبل الناس عليها . ويرحم الله تعالى القائل مخاطباً شيخنا رضي الله عنه :
قدمت قدوم الغيث في المهمه الصعب أبا ابن سراج الدين جئت على الرحب
وهللت الأصحاب فيك وكبرت وزالت عن الأحشاء فادحة الكرب
أضاء على الشهباء نور سراجه ولاح عليها من سناه ضيا الشهب
وعاد عليها خيرها وسرورها بتشريفه يا منية الروح والقلب
فأهلاً وسهلاً فيك ثم ومرحباً فلا زلت مرعياً على البعد والقرب
وصل إلهي دائماً أبداً على رسول الهدى المبعوث للعجم والعرب
وآل وصحب كلما قال قائل قدمت قدوم الغيث في المهمه الصعب
ثم إنه اعتزل الدروس العامة في أوائل عام /1410/ هـ بسبب اعتلال صحته ، وكان قد رأى في المنام مرات عديدة ما يشير إلى ذلك ، فالتزم بيته متوجهاً إلى الله تعالى ، واشتغل بجمع الكتب التي تنفع الناس في أمور دينهم .
وكان رضي الله عنه في هذه الفترة يختم القرآن الكريم كل ثلاث أو أربع ليال ، ويكثر من ذكر الله تعالى ، والتفكر والتدبر في كلامه سبحانه ، وقد أخبر أن الله تعالى تجلى عليه بالرؤيا في المنام عدة مرات ، قص علينا إحداها ، وذلك أنه رأى نفسه في بيت الله الحرام ، فألهمه الله تعالى أسماء إلهية راح يذكره بها ، فتجلى سبحانه عليه بالنور فقام وسجد له سبحانه وتعالى .
تبركه بالأثر النبوي الشريف وتعظيمه له
وكان من عادته رضي الله عنه كل ليلة قبل أن يقوم إلى النوم أن يتناول الأثر الشريف بكلتا يديه ويتوجه إلى القبلة ويقبله ويمسح به عينيه ووجهه ورأسه وصدره ثم يبدأ الحاضرون من أولاده وأحفاده بالتقدم لتقبيله والتمسح به والأثر الشريف في يديه رضي الله عنه والألسنة تلهج بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ الحاضرون من تقبيل الأثر الشريف والتبرك به بدأ شيخنا الإمام بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى متوسلاً بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من دعائه : اللهم صل وسلم و بارك على سيدنا محمد وأزواجه وذريته وآل بيته وعلينا معهم أجمعين كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد صلاة تشفينا بها من كل داء وتعافينا بها من كل بلاء وأفض علينا يا مولانا من بركاته صلى الله عليه وسلم وأنواره وأسراره ونفحاته نفحات محمدية تسعدنا بها في الدنيا والآخرة .
وكان إذا اجتهد في الدعاء يردد هذه الأبيات :
إلى بابك العالي مددت يد الرجا ومن جاء ذاك الباب لا يختشي الردى
سألتك يا الله مستشفعاً بمن ضيا وجهه الوضاء يبرق في الدجى
صلى الله عليه وسلم أبداً أبداً
ويقول أيضاً:
بالذل قد وافيت بابك عالماً أن التذلل عند بابك ينفع
وجعلت معتمدي عليك توكلاً وبسطت كفي سائلاً أتضرع
فبحق من أحببته وبعثته وأجبت دعوة من به يتشفع
اجعل لنا من كل هم مخرجاً والطف بنا يا من إليه المرجع
ثم الصلاة على النبي وآله خير الورى ومن بهم يتشفع
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك كلما ذكرك وذكره الذاكرون وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون وعلينا معهم أجمعين وعلى والدينا ومشايخنا ومن له حق علينا وعلى جميع المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات .آمين والحمد لله رب العالمين .
وكان إذا مرض أو شكا ألماً لجأ إلى الأثر الشريف وقبله وتمسح به ودعا الله تعالى مستشفياً بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفياض بالخيرات والبركات .
والأثر النبوي الشريف هو شعرة من شعر لحيته الشريفة صلى الله عليه وسلم من موضع العنفقة الشريفة لأنها في لونها إلى الشيب أقرب ، وما شاب من شعره الشريف إلا شعرات من عنفقته الشريفة المباركة صلى الله عليه وسلم ، وقد ورثها شيخنا الإمام عن مولانا الشيخ محمد نجيب رضي الله عنهما والتي كان جدي الفاضل السيد الحاج محمد ططري رحمه الله تعالى قد استوهبها من الشيخ عوني خلاصي رحمه الله تعالى وأهداها إلى مولانا الشيخ محمد نجيب رحمه الله تعالى ويؤيد صحة تسلسلها سند مرفق معها وهي موضوعة في زجاجة محكمة الإغلاق وفي نهايتها قليل من الشمع متصل بها ثم إن هذه الزجاجة موضوعة في أسطوانة مصنوعة من الذهب ونقش عليها :[لا إله إلا الله محمد رسول الله ].
وهذه الأسطوانة ملفوفة بقطعة قماش أخضر وتفوح منها رائحة العطر الزكية دون أن يمسها أحد بطيب .وإن شيخنا الإمام رضي الله عنه كان يعظم هذا الأثر النبوي الشريف ويضعه في أعلى مكتبته الخاصة به رضي الله عنه .
--------------------------------------------------------------------------------------
المفازة البعيدة ، والبلد المقفر .