اطلاعه على دروس والده

 

الإمام العلامة الشهير والعارف الكبير فضيلة الشيخ محمد نجيب سراج الدين الحسيني ت 1372 هـ

 

 

قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : 

وكنت آخر سني دراستي في الخسروية قد استأذنت والدي رضي الله عنه في قراءة دروسه القديمة التي لم ادركها فأذن لي وتناولتها بالقراءة بفهم ودراسة وذلك مما سهل علي فهم مطولات الكتب في علم التوحيد والتفسير وعلوم الحديث وأصوله أيام خلوتي للمطالعة في غرفة والدي في المدرسة الشعبانية .

ومما قاله مولانا الشيخ الإمام رضي الله عنه عن دروس والده :

أن الشيخ محمد نجيب رضي الله عنه كان يكتب دروسه كلها قبل أن يذهب إلى التدريس ويستظهرها ثم يمضي إلى المسجد ليلقيها وربما أتى بشروح إضافية من عنده لإفهام بعض العامة حيث كان درسه عاما وليس للعوام وكان محتوى دروسه بشكل عام يقتصر على علم التوحيد وقضايا الإيمان ودفع الشبهات وإزالة الضلالات وهناك دروس في الجامع الأموي تتضمن شرح أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الإمام البخاري في صحيحه وهناك دروس تضمنت أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الإمام السيوطي في الجامع الصغير . اهـ

وقال رضي الله عنه : كان سيدي الوالد رحمه الله تعالى يفتتح دروسه في الجامع الأموي وجامع بانقوسا – يفتتح ذلك بالصيغة التالية : 

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأكمل التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد : 

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار - هذا الحديث كثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه به ، وكان والدي الكريم يفتتح به دروسه إتباعاً له صلى الله عليه وآله وسلم ، واستفتاحاً وتبركاً - 

ثم يقول : بالسند المتصل إلى الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن المغيرة بن بردزبة ، الجعفي البخاري قال – أي البخاري - : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ] ثم يدخل في بحثه العلمي الذي يريد أن يلقيه ، مع ربطه في البحث الذي قبله ، على وجه متسلسل ، ومترابط ومتناسب. 

وكان إذا ختم الدرس وانتهى من البحث يقول : وسيأتي تمام هذا إن شاء الله تعالى .

فإذا قال ذلك ، بدأ الناس المستمعون بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهراً ، بصيغة الصلاة الإبراهيمية ثلاث مرات ، ويقولون في آخر كل صلاة : عدد خلقك ، ورضاء نفسك ، وزنة عرشك ، ومداد كلماتك ، كلما ذكرك وذكره الذاكرون ، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون ثم يقولون عشر مرات : لا إله إلا الله – جهراً .

ثم يسمع الحاج محمود الحاج كريم رحمه الله تعالى الفواتح ، ثم يدعو سيدي الوالد الكريم رحمه الله تعالى ، وبذلك يكون الختام وكان دعاؤه عقب الدروس وفي خطبة الجمعة كما يلي :
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

اللهم أيد الإسلام والمسلمين ، وانصر وأعل يا مولانا كلمة الحق والدين .
اللهم ارفع الكرب والشدائد عن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
اللهم ارحم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
اللهم أصلح أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
اللهم احفظ أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم والأموات .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .

ثم يقول سيدي الوالد الكريم رحمه الله تعالى عند انتهائه من الدعاء وراء دروسه :{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } والمستمعون يقولون ذلك مع سيدي الوالد رحمه الله تعالى جهراً وجماعة . 

قلت : وقد بسط الشيخ الإمام رضي الله عنه الكلام حول ذلك مفصلاً في كتابه : 

حول ترجمة المرحوم الإمام العلامة الشهير والعارف الكبير فضيلة سيدي الوالد الشيخ محمد نجيب سراج الدين الحسيني رضي الله تعالى عنه ، فارجع إليه تجد ما ينفعك إن شاء الله .

وقد أكرمني مولانا الوالد رضي الله عنه بأن أعطاني بعض أوراق دروس والده الكريم مولانا الشيخ محمد نجيب رضي الله عنه - ولم تكن في مجموعها تتجاوز خمس دروس  - وأشار علي بكتابتها من جديد وكان موضوعها حول شرح بعض الأحاديث النبوية التي ذكرها الإمام السيوطي في جامعه وبعض أحاديث صحيح البخاري ونبهني إلى بعض التحويلات والاستدراكات التي كان يكتبها الشيخ محمد نجيب رضي الله عنه على جانب الصفحة أو على روقة مستقلة لتلحق بالأصل فكتبتها بقلمي وكان لي صديق يجيد أنواع الخطوط فكتب شيئاً منها بخط جيد حسن، وكان كل ذلك قد حصل في صيف عام 1397 هـ ثم جاورمولانا الشيخ رضي الله عنه  في المدينة المنورة وبعد عودته أعطاني بعضاً منها ولم تزل بقية أوراق الدروس بمجموعها محفوظة في مكتبة مولانا الوالد رضي الله عنه  وقد رأيت من الفائدة بمكان أن أنسخ صفحة من مخطوطاته التي خطها بيده المباركة رضي الله عنه وهي مكتوبة بقلم من قصب يستمد الحبر من محبرة إلى جانبه إذ لم تكن الأقلام المعروفة حتى ولا الأوراق المعهودة لدينا متوفرة بسهولة وقتئذ وإليك نموذجاً عنها :

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله صلى الله عليه وسلم : [ آل القرآن آل الله ] / عزاه السيوطي في الجامع الصغير للخطيب في رواة مالك /  أي أهل القرآن هم أهل الله وخاصته أي المتقربون إلى القرآن هم المقربون إلى الله والمراد أن المتقربين إلى القرآن بالمداومة على تلاوته من المصحف أو عن ظهر قلب مع القيام بأوامره والاجتناب عن نواهيه هم المقربون إلى الله وذلك لأن القرآن كلام الله ، وكلام الله تعالى صفته فيكون التقرب إلى كلامه تقرباً إليه ولهذا ورد في الحديث القدسي : [ أنا جليس من ذكرني ] /عزاه في المقاصد الحسنة للديلمي موقوفا على أبي بن كعب / وفي الحديث القدسي  يقول الله تعالى : [ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني – وفي رواية مسلم : حين يذكرني -  فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ]. صحيح البخاري 
ولاشك أن أفضل الأذكار وآكدها على الإطلاق تلاوة القرآن قال تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } .

وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ].

فأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الكلمات الأربع أفضل الكلام بعد القرآن ، فيكون القرآن أفضل منها ، كما أنه أفضل من غيرها .

وروى الإمام الترمذي وحسنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ يقول الرب سبحانه وتعالى :  من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفضل كلام  الله سبحانه وتعالى على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ].

وفي الحديث الذي رواه السجزي في الإبانة  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :[ القرآن أفضل من كل شيىء ، فمن وقر القرآن فقد وقر الله ، ومن استخف بالقرآن استخف بحق الله ، حملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله المعظمون كلام الله ، الملبسون نور الله فمن والاهم فقد  والى الله ، ومن عاداهم فقد استخف بحق الله عزوجل ] 

وفي الحديث الذي رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال :قال صلى الله عليه وسلم : إن لله عز وجل أهلين من الناس ، قيل من هم يا رسول الله ؟ قال أهل القرآن هم أهل الله وخاصته.

وفي الحديث الذي رواه أبي نعيم في أخبار أصبهان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ يا أبا هريرة تعلم القرآن وعلمه الناس ولا تزال كذلك حتى يأتيك الموت فإنه إذا أتاك الموت وأنت كذلك حجت الملائكة إلى قبرك كما يحج المؤمنون إلى بيت الله الحرام ] ورواه الخطيب في تاريخه وجاء في الأربعون البلدانية وذكره السبكي في طبقات الشافعية الكبرى

وفي الحديث الذي رواه الدارمي : [ اقرؤوا القرآن فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن ] 

وفي الحديث الذي رواه أبو يعلى ومحمد بن نصر المروزي : [ القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه ] .

وروى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ] 

وفي صحيح البخاري :[ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] 

وفي رواية للبخاري أيضاً : [ إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه ] 

وفي صحيح البخاري :[ لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار ] .

وفي صحيح البخاري :[ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها ، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ، ولا ريح لها ] .

وهذا كله في القارئ العامل بما في القرآن القائم بأوامره المجتنب عن نواهيه وإلا كان القرآن الكريم حجة عليه لا حجة له .

وفي الحديث الذي رواه أنس موقوفاُ :[ رب تال للقرآن والقرآن يلعنه ] / ذكره الغزالي في الإحياء وذكره العلامة الطيبي موقوفا ، انظر كتاب تلاوة القرآن المجيد للشيخ الإمام / 
ولهذا قال بعض السلف إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم ، يقرأ { ألا لعنة الله على الظالمين } وهو ظالم لنفسه ، و يقرأ { فنجعل  لعنة الله على الكاذبين } وهو منهم .

وقد كان العلماء في صدر الإسلام هم القراء وذلك لأن القراء كانوا مجتهدين فكانوا يستنبطون العلم من القرآن والأحاديث فكان كل من كان أكثر حفظاً للقرآن كان أعلم بالدين ، بالحلال والحرام ، ثم لما مضت قرون السلف الصالح  قطعت العلماء الاجتهاد للعجز عنه وأوجبوا على الناس التقليد للسابقين عملاً بقوله تعالى :{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } فصار العلم غير لازم للقراء ،  بل قد يكون قارئ غير عالم ، وقد يكون عالم غير قارئ ،  ولما كان المقصود الأعظم من القرآن والأحاديث التفقه بما فيهما من المعاني والأحكام وليس المقصود منهما حفظ الألفاظ المجردة ، كان الفقه أي العلم والفهم أفضل من الحفظ المجرد عن الفهم ، ولهذا نص العلماء على أن الأحق بالإمامة الأعلم بأحكام الصلاة ثم الأحسن تلاوة للقرآن ، فقدموا العالم على القارئ ولهذا أيضاً نص العلماء على أنه إذا كان في المسجد مجلسان مجلس قرآن ومجلس موعظة فاستماع الموعظة  أفضل من استماع القرآن ، أي إذا لم يكن له قدرة على فهم الآيات القرآنية وكذا من باب أولى إذا كان مجلس علم يتعلق بالتوحيد أو بالحلال والحرام ، فإنه أفضل من استماع القرآن ومن استماع الموعظة .

ولهذا نص العلماء على أن التبحر في علم الفقه [ أي التوسع فيه ] سواء أكان الفقه الأكبر أي علم التوحيد والإيمان ، أو كان فقه الحلال والحرام أفضل من التفرغ لحفظ جميع القرآن وأفضل أيضاً من قيام الليل ، وأن التفرغ لحفظ جميع القرآن أفضل من قيام الليل . والحاصل أن حفظ جميع القرآن فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين .

وحفظ آية من القرآن فرض عين على كل مسلم بالإجماع لأن الصلاة لا تصح بدون القراءة ولو بقدر آية ، وحفظ الفاتحة فرض عندالشافعية  لعدم صحة الصلاة بدونها عندهم ، وواجب عند الحنفية  حفظ سورة ولو قصيرة أو ما يقوم مقامها من ثلاث آيات قصار .

واشتغال الإنسان بحفظ جميع القرآن أفضل من قيام الليل ، والتبحر في الفقه أفضل منهما معاً ،  والمراد بالفقه : علم أصول الدين أي علم التوحيد والإيمان الذي هو الفقه الأكبر وعلم الحلال والحرام ، هذا كله في التوسع فيهما أي تعلم ما زاد على حاجته منهما وأما تعلم ما يحتاجه من تصحيح عقيدته وإيمانه وتوحيده فهو حتم البتة ، فإنه لا يكون مؤمناً بدونه ، وكذا تعلم ما يحتاجه من الفرائض والواجبات كصلاته وزكاته وصومه وحجه فهو فرض واجب ،  ثم إن تحسين الصوت بالقراءة مستحب بالإجماع ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن أفرط حتى زاد حرفاً أو أخفى حرفاً فهو حرام بالاتفاق ،  وأما القراءة بالألحان أي الأنغام المستفادة من فن الموسيقى فإن كان يخرج أيضاً بسببها عن حد القراءة بتمطيط حرف أو تقصيره فهو حرام بالاتفاق ،  فإن كان في الصلاة فهو مفسد لها أيضاً وإن لم يخرج بالأنغام عن الأحكام التجويدية فهذا قد وقع فيه خلاف ، فقيل أنها بدعة مكروهة تحريماً وعليه أكثر القراء المتقدمين والسلف ، وقيل أنها جائزة بل مستحبة في الصلاة وخارجها وعليه أكثر الفقهاء الحنفية والشافعية .

استدل من قال بالكراهة بما رواه حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :[ اقرؤوا  القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم ] ./ المعجم الأوسط للطبراني / واحتجوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أشراط الساعة فذكر منها أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم . / مسند أحمد  

واحتجوا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المؤذن المطرب في أذانه من التطريب وقال له : إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن. / سنن الدارقطني 

قالوا : وقراءة القرآن بالألحان ذريعة موصلة إلى الخروج عن حد القراءة وأحكام التجويد من التمطيطات والتلحينات التي يفعلها المغنون الفسقة في أشعارهم فالمنع منه كالمنع من الذرائع المفضية إلى الحرام  . 
واستدل من قال بالجواز والاستحباب بما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ الماهر بالقرآن مع الكرام البررة ، وزينوا القرآن بأصواتكم ] 

وفي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ لم يأذن الله لشيء ما أذن للنبي صلى الله عليه و سلم يتغنى بالقرآن ] وفيه أيضاً قال صلى الله عليه وسلم : [ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ] .

وفيه عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :[ يا أبا موسى لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود ] .

وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع ليلة إلى قراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال أبو موسى لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيراً ، أي حسنته لك وزينته بصوتي تزييناً .

وفي الحديث :[ تعلموا القرآن وغنوا به ] / المعجم الكبير للطبراني 

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه  :  ذكرنا ربنا ، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن  / صحيح ابن حبان

وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم كانوا يستمعون القرآن بالألحان ./ انظر شرح صحيح البخاري لابن بطال /  وقال محمد بن الحكم رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمرو يستمعون القرآن بالألحان .

فهذا خلاصة كلام الفريقين . 

والتوفيق بين هاتين الطائفتين وفصل النزاع بينهما ما قاله المحققون : إن التغني بالقرآن على وجهين :

- أحدهما ما كان على وجه التكلف والتصنع  والتمرين والتعلم كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان محدودة ومعدودة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف فهذه القراءة على هذا الوجه هي التي كرهها السلف وقدماء القراء وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأنكروا على من قرأ بها لأنه يكون المقصود الغناء وحسن الصوت لا القراءة وتكون القراءة تبعاً للغناء . 

وأدلتهم التي احتجوا بها إنما تدل على هذا الوجه ولا تدل على أكثر من هذا  - الوجه الثاني أن يكون التغني بالقرآن على وجه تسمح به الطبيعة من غير تكلف ولا تصنع  ولا تمرين ولا تتبع لطريقة الفسقة في أشعارهم وأغانيهم  فذلك جائز ، فإن أعان طبيعته بشيء من التحسين والتزيين كما قال أبو موسى للنبي صلى الله عليه وسلم :[ لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً ] كان ذلك  حسناً وهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه وهو التغني الممدوح به تكون القراءة أوقع في النفوس وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع ومعانيه إلى القلوب وذلك عون على المقصود فيكون التغني على هذا الوجه بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء والروائح الطيبة التي تجعل في الطعام ، وبمنزلة تجمل المرأة لبعلها ، فيكون المقصود أولاً هو استماع القرآن ويكون حسن الصوت لأجل القرآن ، لا أن يكون المقصود هو حسن الصوت والتغني ويكون القرآن وسيلة له .

 قال المحققون : ولابد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني . قالوا وهكذا شأن الشريعة المحمدية وهو أن تشرع عن كل محرم ومكروه بما هو خير منه قالوا : وهذا من جملة التيسيرات في الشريعة المحمدية وهو أن تشرع في الطاعات ما ترغب فيه الطبيعة البدنية لتكون الطبيعة راغبة فيما يرغب فيه العقل الإيماني فيتعاضد الرغبتان إلى الرغبة الطبيعية والرغبة العقلية الإيمانية ويتم الإقبال على الطاعة من جهتين من جهة البدن ومن جهة العقل وبهذا يتوفر للإنسان التأمل في معاني القرآن والتفتيش على أسراره ورموزه ولاشك أن المقصود الأول من تنزيل القرآن هو التدبر في آياته كما قال تعالى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }  وقال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }  وقد اختلف الناس أيهما أفضل هل الترتيل مع قلة القراءة ، أو الحدر أي الإسراع مع كثرة القراءة ، فقالت طائفة : الترتيل مع التدبر أفضل من الإسراع ، قالوا لأن المقصود من قراءة القرآن فهمه والتدبر في آياته والعمل به ،  قالوا : ولهذا كان أهل القرآن هم العاملين به والعاملين بما فيه وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب أو لم تكن الحروف من تمام مخارجها فأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل به فليس من آله وإن أقام حروفه إقامة السهم ، قالوا : ولأن الإيمان أفضل الأعمال وفهم القرآن وتدبره هو الذي يثمر الإيمان وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر فيفعله البر والفاجر والمؤمن والمنافق كما مر في الحديث : 
ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر قالوا : وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة تامة بآية واحدة يتلوها ويرددها حتى الصباح وهي : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }/ سنن النسائي ،  وعن ابن مسعود : لا تهذوا  بالقرآن هذ الشعر . / شعب الإيمان للبيهقي ، وقالت طائفة أخرى :  كثرة القراءة أفضل ، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :  [ من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ] رواه الترمذي وصححه 
و
في صحيح ابن حبان عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " خفف على داود القراءة ، فكان يأمر بدابته أن تسرج ، فيفرغ من قراءة الزبور قبل أن تسرج دابته قالوا ولأن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ القرآن في ركعة – كما في سنن الترمذي - واستدلوا أيضاً بآثار كثيرة عن السلف في كثرة القراءة  والتحقيق في المسألة أن يقال : إن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان يظهر له بالتأمل والتدبر لطائف ومعارف فالأفضل في حقه الاقتصار على قدر يتمكن معه من فهم ما يقرأ وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو بشيء من مهمات الدين ومن لم يكن كذلك فالأفضل في حقه الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة وهذا في الدنيا وأما من جهة الثواب في الآخرة فالتحقيق أيضاً أن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أنفع وأجل قدراً وثواب كثرة القراءة أكثر عدداً فالأول كمن تصدق بجوهرة عظيمة أو أعتق عبداً قيمته نفيسة جداً والثاني كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم أو أعتق عدداً كبيراً من العبيد الذين قيمتهم رخيصة ، ثم إن القرآن العظيم كما إنه تتفاضل قراءته فإن القراءة بالتدبر أفضل من القراءة بدون تدبر كما قررناه مع أن المقروء واحد وهو القرآن فكذلك أيضاً نفس القرآن يتفاضل فإن بعضه أفضل من بعض وإن كان الكل كلام الله سبحانه وتعالى وذلك من جهتين من جهة المعنى ومن جهة الثواب فقد وردت في فضل سورة الإخلاص { قل هو الله أحد } أحاديث كثيرة وكذا في سورة الكافرون وسورة الزلزلة وسورة الفاتحة وفي آية الكرسي وفي غيرها أما فضل { قل هو الله أحد } ففي صحيح البخاري قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه : ( أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ) . فشق ذلك عليهم وقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله ؟ فقال (الله الواحد الصمد ثلث القرآن).

وفي صحيح البخاري : : أن رجلا سمع رجلا يقرأ { قل هو الله أحد } . يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن ) .

وفي صحيح مسلم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « احشدوا فإنى سأقرأ عليكم ثلث القرآن ». فحشد من حشد ثم خرج نبى الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ ( قل هو الله أحد).

وروى مسلم أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال :[ إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله أحد جزءاً من أجزاء القرآن ] 

وروى الترمذي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا زلزلت تعدل نصف القرآن وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ] .

وإنما كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لأن القرآن إما فيما يتعلق بالخالق أو فيما يتعلق بالمخلوق والثاني إما إنشاء أي أوامر ونواهي وإما إخبار عن أحوال السعداء والأشقياء ولاشك أن { قل هو الله أحد } إخبار عما يتعلق بنعوت الخالق فكانت تعدل ثلث القرآن وذلك لأنها تضمنت إثبات الأحدية المطلقة الكاملة لله تعالى المستلزمة نفي التعدد من جميع الوجوه عنه تعالى فلا يتجزأ ولا ينقسم وإلا لكان متعدداً فلا يكون أحداً وتضمنت أيضاً إثبات الصمدية لله تعالى المطلقة الكاملة ،  ومعنى الصمد :  المستغني عن غيره المحتاج إليه غيره ، ولاشك أن من استغنى عن كل ما سواه مع احتياج ما عداه إليه يجب أن يكون متصفاً بكل كمال ومنزهاً  عن كل نقصان  ، وإلا فلو كان ناقصاً لاحتاج إلى من يكمله وقد قررنا أنه الصمد أي المستغني عن غيره المحتاج إليه كل ما عداه  ، وتضمنت هذه السورة أيضاً نفي الولد والوالد وهذا في الحقيقة لازم للأحد الصمد وذلك لأن من كان أحداً حقيقياً فلا يتعدد ولا يتجزأ وإذا كان لا يتجزأ فلا يلد لأن الولد جزء أبيه ومن كان صمداً أي مستغنياً عن غيره فلا يحتاج إلى أب لأنه لو احتاج إلى أب لاحتاج إلى من يلده ويوجده ثم يربيه ويكمله حتى تكمل نشأته فيلزم أنه كان أولاً معدوماً ثم صار موجوداً ناقصاً ثم تكمل وهذا كله مناف لكونه صمداً لأن الصمد هو المستغني عن غيره المحتاج إليه كل ما عداه 
وتضمنت هذه السورة أيضاً نفي الكفو أي نفي النظير أي المماثل وهذا أيضاً لازم لمعنى الواحد المطلق أي الواحد من جميع الوجوه لأنه إذا كان واحداً من كل وجه كان واحداً في ذاته فلا يتجزأ ،  وواحداً  في صفاته فلا يكون له نظير في ذاته ولا في صفاته  ، ويستلزم ذلك أنه واحد في صفات الألوهية فلا إله غيره  فقد تضمنت هذه السورة جميع أصول التوحيد بل أصول التوحيد كلها قد تضمنها قوله تعالى :{ الله أحد الله الصمد } ولهذا اقتصر في بعض أحاديث البخاري على هذه الآية إشارة إلى ذلك ولما كان الإخلاص بالله إما في الاعتقاد وهو معنى { قل هو الله أحد } كما قررناه وإما في العمل وهو معنى { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } فكانت هاتان السورتان كلتاهما للإخلاص إحداهما للإخلاص العلمي والأخرى للإخلاص العملي  ، ولهذا يستحب قراءتهما في ركعتي الفجر – أي قبل الفريضة - اللتين هما ابتداء الصلوات ويستحب أيضاً قراءتهما في ثانية الوتر وثالثه الذي هو خاتمة الصلوات فتكون أعمال العبد مفتتحة بالإخلاصين العلمي والعملي ومختتمة بهما ولما كان القرآن شطرين شطر فيما يتعلق بأحكام الدنيا وشطر فيما يتعلق بأحوال الآخرة وسورة الزلزلة قد أخلصت لأحوال الآخرة فكانت تعدل نصف القرآن ولما كان الإخلاص في العلم مقدماً على الإخلاص في العمل كانت سورة الكافرون تعدل ربع القرآن 
وأما آية الكرسي فقد ثبت في الصحيح أنها أعظم آية في القرآن ، وفي رواية الترمذي : أنها سيدة آي القرآن ، وفي مسند أحمد: إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :

وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال فخليت عنه فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قال قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال أما إنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال أما إنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود قال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت ما هي قال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ما فعل أسيرك البارحة ؟  قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال ما هي قلت قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وقال لي لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ،  وكانوا أحرص شيء على الخير فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ قال لا قال ذاك شيطان
وأما الفاتحة فهي التي لم ينزل في القرآن والتوراة والإنجيل والزبور مثلها كما صرحت بذلك الأحاديث  ، وهي المتضمنة لجميع معاني كتب الله قال الحسن البصري أنزل الله مئة كتاب وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة منها التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم هذه الأربعة  الفرقان ثم أودع علوم القرآن المفصل - أي الُسبُعُ الأخير من القرآن الكريم وسمي بالمفصل لقصر سوره وكثرة الفصل بينها ببسم الله الرحمن الرحيم -  ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان / شعب الإيمان للبيهقي 

وقال المحققون إن معاني الفاتحة مجموعة في قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } لأن المقصود من الشرائع كلها أن يعبد الله لا غيره وأن يستعان به لا بغيره وهي مشتملة على ذكر أصول أسماء الله تعالى ومجامعها وهي الله والرب والرحمن فإن جميع أسماء الله الحسنى ترجع إلى هذه الثلاث ، وهي المشتملة على ذكر جميع أنواع الثناء والمحامد لله تعالى في قوله تعالى : {الحمد لله } وهي المشتملة على أن كل إنعام وإحسان فهو منه تعالى وذلك في قوله تعالى :{ الرحمن الرحيم } فذكر الرحمة الخاصة والعامة.

وهي مشتملة على توحيد الله تعالى و ذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة منه في إياك نستعين وطلب الهداية منه في اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ، وهي المشتملة على ذكر أفضل الأدعية على الإطلاق وأنفعها وأفرضها وأحوج شيء إلى العباد وهو الهداية إلى الصراط المستقيم ، ولا تتم الهداية إلى صراطه إلا بكمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والاستقامة على ذلك إلى الموت . 

وهي المشتملة على ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق والعمل به ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته وضال لعدم معرفته للحق .

وهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الخليقة وبالجملة فكل ما ورد في القرآن مفصلاً فإنه ورد في الفاتحة مجملاً ولهذا سميت بأم الكتاب وبأم القرآن . وأم الشيء أصله ومادته ولهذا سميت بالقرآن العظيم إشارة إلى أنها جامعة لكل ما في القرآن فسميت باسمه . 

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال ألم يقل الله ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ) ثم قال لي لأعلمنك سورة ً هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت ألم تقل لأعلمنك سورة ً هي أعظم سورة في القرآن قال ( الحمد لله رب العالمين ) قال هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذى أوتيته .

أشار صلى الله عليه وسلم إلى تفسير قوله تعالى :{ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ } فهي المتضمنة جميع معاني الكتب السماوية ، ثم قال الحسن البصري رضي الله عنه :ومن أسمائها الشفاء وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن تكون شفاء من الأمراض وأن يرقى بها اللديغ .

وفي الحديث فاتحة الكتاب شفاء من كل داء / سنن الدرامي 

وفي رواية :شفاء من السم . / شعب الإيمان للبيهقي 

وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم انطلقوا في سفرة سافروها حتى نزلوا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم لعله أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ فسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء فهل عند أحد منكم شيء ؟ فقال بعضهم نعم والله إني لراق ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا ، فصالحوهم على قطيع من الغنم فانطلق فجعل يتفل ويقرأ { الحمد لله رب العالمين } . حتى لكأنما نشط من عقال فانطلق يمشي ما به قلبة – أي علة - قال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه فقال بعضهم اقسموا فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فنذكر له الذي كان فننظر ما يأمرنا فقدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له فقال ( وما يدريك أنها رقية ؟ أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم بسهم ) .

ويجب أن يعلم أن الاستشفاء بالقرآن والأدعية ونحوها من الرقى يختلف باختلاف أحوال الراقين وأحوال المسترقين فإن الاستشفاء  بذلك  لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية فليس إذا لم يحصل الشفاء لقصور في الدواء بل قد يكون ذلك من جهة المسترقين لخبث الطبيعة وفساد المحل وقد يكون من جهة الراقين لعدم استيفاء القدر اللازم من صدق التوجه إلى الله وقد كان بعض الشيوخ المتقدمين يرقي نفسه  بقل هو الله أحد فكان لها بركة عظيمة فيرقي بها غيره فلا يحصل ذلك فيقول : ليس قل هو الله أحد من كل أحد تنفع كل أحد 

ومن أسماء الفاتحة الصلاة ففي الحديث الذي رواه الإمام مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال الله  عز وجل :  قسمت الصلاة – أي الفاتحة - بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال الله مجدني عبدي أو قال فوض إلي عبدي فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . قال هذا لعبدى ولعبدى ما سأل »

وبالجملة فالفاتحة كما أنها فاتحة الكتاب هي أيضاً فاتحة كل خير دنيوي وأخروي فهي مفتاح لكنوز الآخرة وهي مفتاح لكنوز الدنيا ولكن ليس كل أحد يعرف الفتح بها إلا بتوفيقه تعالى 
وهذه الأحاديث التي ذكرناها في فضائل السور تدل على أن القرآن بعضه أفضل من بعض وإن كان الكل كلام الله وهذا هو القول المأثور عند السلف الصالح وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم وهو الذي نطقت به النصوص النبوية كما قدمناه في الأحاديث المارة وهو الذي دلت عليه الآيات القرآنية قال الله تعالى :{ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } فأخبر أن بعض الآيات خير من بعض وإن بعضها مثل بعض فهي تارة تتفاضل وتارة تتماثل . 

وقال تعالى :{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } والمهيمن هو المؤتمن والشاهد والقائم على أمور غيره ولاشك أن يكون أعلى رتبة من ذلك الغير .

وقد أجمع المسلمون على أن القرآن أفضل الكتب السماوية  مع أن جميع الكتب السماوية كلام الله وهذا التفضيل يرجع لشيئين من حيث المعنى ومن حيث الثواب ولاشك أن معنى {قل هو الله أحد } أفضل من معنى { تبت يدا أبي لهب } ومعنى { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } أفضل من معنى قوله تعالى { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم }  وكما أن كلام الله يفضل بعضه بعضاً فكذلك أسماؤه تعالى تتفاضل - أي : من ناحية تضمنها لمعاني أسماء إلهية غيرها -  وإن كانت جميع أسماء الله حسنى فالاسم الأعظم أفضل من غيره وإن كانت جميع أسماء الله عظيمة جليلة وكما أن أسماءه تعالى تتفاضل فكذلك صفاته وإن كانت جميع صفاته لا نهاية لكمالها وتمامها 

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي ]  وفي رواية  له أيضاً: [إن رحمتي غلبت غضبي ]  وقد فضلت رحمة الله على غضبه بالسبق والغلبة 

وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك
ومعلوم أن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه .

وسيأتي تمام هذا إن شاء الله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين


المرئيات 8
المقالات 36
الصوتيات 129
الكتب والمؤلفات 239
الزوار 1814140
جميع الحقوق محفوظة لحفيد الشيخ الإمام: الشيخ عبد الله محمد محيي الدين سراج الدين © 2024 
برمجة وتطوير :